قاسم محمد عباس: عن محرقة لا شفاء منها

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
13/01/2011 06:00 AM
GMT



حكاية من حكايات الحرب التي أكلت أبناء العراق من دون ذنب، وأيضاً، من دون أيّ مكسب يُذكر. كل شخوص هذه الحكايا ضحايا، في رواية «المحرقة» (دار المدى) للعراقي قاسم محمد عباس. ينتمي المؤلف إلى جيل يدرك مدى خيبته: «نحن جيل تحطّم على مرأى من نظر العالم، لا أدري كيف سيتحدثون عنا فيما بعد». يفتتح الراوي/ البطل السرد، لنتعرّف إلى الشاب الجامعي مروان، الشبيه «تماماً» بأخيه الأكبر، الذي هرب من الخدمة العسكرية وعَبَرَ الحدود... «الحرب وحكايتي التي لا تصدق، أوصلتاني إلى هذا الموقع الغريب: ألبس بذلة عمل من الكتّان الأزرق الداكن كل صباح، وأقوم بجمع الأطراف البشرية المبتورة التي تجلبها الناقلات العسكرية من المستشفيات، وأدفعها إلى جوف المحرقة الحديدية، بانتظار أن تتحول إلى رماد أسود ناعم». رضخ مروان لطلب والده بأن يحلّ محلّ أخيه، ويلتحق بالوحدة العسكرية، تاركاً دراسة الهندسة المدنية بعدما شاع خبر كاذب عن موته بصعقة كهربائية. «حياتك لديّ أهم من أي شيء، لكنني أشعر بالرعب كلما فكرت في أنّ أجهزة الحزب والأمن تقتحم البيت، وأجرجر أمام الناس. ليس سهلاً عليّ أن أعرّض نفسي للإذلال وأنا بهذا العمر». لم يكتفِ الأب بهذا، بل سلّمه ساعة أخيه الهارب، كأنه يضع الزمن القذر الذي فرَّ منه شقيقه، بين يديه ويطلب منه التمسك به. هكذا تصبح قسوة الضحية أشد مرارة من قسوة الجلاد. لم يترك قاسم محمد عباس بطل روايته يعيش مأساته على هواه، بل يسلبه حبيبته، وهي ابنة عمّه التي تقرر عدم الارتباط به، لكونه قد اختار ولو مجبراً، أن يكون بديلاً عن أخيه. «لم أتوصل إلى تحليل مقنع، سوى أنها تخاف الزواج برجل ربما يقتل في الحرب»، يفكّر مروان.
يدخل بطلنا السجن ليقضي عقوبة فرار أخيه، وهناك يستعير المؤلف عيني مروان، ويوظفهما كعدسة لكاميرا تلفزيونية تصوّر لنا حياة السجناء وعذاباتهم. ينتهي المطاف بمروان بعد خروجه من السجن إلى محرقة للأطراف البشرية المبتورة. مكان وإن كان بعيداً عن ساحات القتال، إلّا أنه يعد عقوبة ليست سهلةً، يرسَل إليها عادةً كل جندي غضبت عليه قيادته العسكرية. المحرقة استعارة رمزية للحرب العراقيّة ـــــ الإيرانيّة التي ظلت نارها مستعرة ثماني سنوات. «فقط لا تنسَ المحرقة، عليك أن تراقب مؤشر الوقود، وكل ما عدا ذلك هو بلا أهمية».
تعليمات واضحة يتلقاها مروان منذ اليوم الأول. «تسلمتها من بعد جندي أصيب بالجنون، دخل مع الأطراف إلى داخل المحرقة، أغلق الباب على نفسه بعدما فتح الوقود، وبعود ثقاب واحد أنهى حياته وسط عشرات الأطراف...»، لكن كيف لشابٍّ حالم على مقاعد الدراسة الجامعية، أن يقضي أيامه وحيداً بين أطراف مبتورة ومنظر الدم المتخثر ورائحة شواء اللحم البشري؟ «قفزت من النوم إثر كابوس أفزعني، كنت أجمع أطراف أبي وبقايا جثة أخي غسان وأدفعها إلى المحرقة، كانت أصابع أبي تمسك بقوة بباب المحرقة وتحول دون إغلاقها، بينما كنت أحاول أن أفك من قبضة الأصابع».
يتدخل المؤلف هنا ليمنح بطل روايته فرصة للتأمل، من خلال نقله إلى عالم القراءة، والتنصت على أحاديث غرفة الطبيبات القريبة من سور المحرقة: «صارت أيامي، يوميات إصغاء إلى العالم عبر الإصغاء إلى الحوارات القادمة من غرفة الطبيبات، حوارات ليليان وميسلون. وصارت علاقتي مع العالم الخارجي عبر أُذُنيّ فحسب...». هكذا راح مروان يبرمج قراءاته حسب ما تذكره ليليان من عناوين كتب لزميلتها ميسلون. يوميات الإصغاء تلك، جعلته يحفظ صوت ليليان كما صوت أمه. وذات يوم، يزور أحد أصدقائه الجرحى في المستشفى، فيتعرّف إليها (هو الذي لم يكن قد رأى وجهها) من خلال صوتها وهي تتحدث في الهاتف العمومي. يقترب منها ويحادثها، لتنشأ بينهما قصة حب أوصلته إلى سريرها: «كانت جالسة على الأريكة السوداء تنزع عني ملابسي، وصوت سقوط القذائف والانهيارات يزداد كلما مرت دقيقة. كنا نلهث معاً، وأصوات القذائف تمتزج بصوت لهاثينا. وصراخنا يمتزج بصوت انهيار البيوت القريبة تحت ضربات القصف المدفعي على حيّ الطويسة».
حين تنتهي الحرب، تبدأ قصة أخرى لبطل الرواية، قصة الوحدة والانعزال ومراجعة أحداث الماضي بروح خاوية من أحلامها وإنسانيتها: «تركت العالم في الخارج يحتفل بنهاية الحرب، ولم أشاركهم مشاعرهم تلك، لأنني لم أزل أخوض حرباً ضارية مع نفسي. ما لا أفهمه هو هذا الحنين الكبير إلى أيام السجن والمحرقة». هكذا تأكل الحرب أبناءها: حتى الناجي من بينهم يحنّ على الدوام، إلى موته المؤجل.